كثير من الناس يجعل حياته رهينة لحالته النفسية ومزاجه المتقلب، فتراه يسلم ويرهن مستقبله بيد غيره، فإن جاءه ما يسره استقبل حياته وعمله وخطط وأمّل وتفاءل، وإن لم تجر الرياح بما تشتهيه سفنه استدبر حياته وأهمل عمله ومستقبله، وهذه آفة خطيرة، وسلوك العاجزين، وهروب إلى الوراء، وإهمال قاتل لنعمة التغيير والتخيير التي أنعم الله بها على الإنسان.
الحالة النفسية في ميزان الإسلام
قال تعالى: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ»فهذا شأن الملائكة عليهم السلام، فإنهم لا يضعفون، ولا يسأمون، وإن التسبيح لهم بمنزلة النَّفسَ عند الإنسان.
أما البشر فإنهم يضعفون ويفترون في سيرهم إلى الله تعالى، ويقصرون أحياناً ببعض الحقوق ويضيعونها، بل يدركهم الملل كثيراً.
وقد علم الله سبحانه وتعالى وجود الملل لدى الإنسان فلوّن له الطاعات، ونوّع له سبل التقرب إليه من ذكر وصلاة وإنفاق وسعي وتفكر وصيام وعلم وحج... إلى ذلك حتى إذا ملّ انصرف إلى طاعة غير التي كان عليها، فتتجدد نفسه، وتنشط عزيمته، وتقوى همته.
وقد ورد في الحديث الشريف: عن حنظلة بن الربيع رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر النار، ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة، فخرجت فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله نافق حنظلة، فقال: مَهْ؟ فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: يا حنظلة، ساعةً وساعةً، لو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق.(مسلم والترمذي).
فتور الصحابة
وقد كان مجتمع الصحابة رضي الله عنهم يعانون مشكلة (الفتور) أحياناً حتى ورد في الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسُها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تُعين ضائعاً، أو تصنع لأخرق «الذي لا يحسن العمل والتصرف المناسب في الأمر»، قلت: يا رسول الله: أرأيت إن ضعُفت عن بعض العمل؟ قال: تكفُّ شرك عن الناس، فإنها صدقة تتصدق بها على نفسك (البخاري ومسلم).
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوجه النفس الإنسانية حين تضعف عن الأمر، وتكل من الجهد إلى الأمر السهل اليسير، وهو الكف عن الأذى، فلا يحتاج (الكفُّ) إلى بذل مجهود، ولكنه عمل إيجابي من النفس تستطيعه، وهو صدقة تؤجر عليها، وهذه فنون تعامل مع النفس، فلا تكن مع نفسك كالعصا فتكسر، أو كالليمون فتعصر.
حالة النفس:
فالنفس لها حالتان لا ثالث لهما إما إقبال وإما إدبارٌ، ولكل منهما فقه في التعامل بها كما قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-:
إن للقلوب شهوة وإدباراً، فاغتنموها عند شهوتها وإقبالها، ودَعوها عند فترتها وإدبارها.
فينبغي إذن أن نحسن سياسة أنفسنا حتى تستمر منطلقة إلى الله سبحانه وتعالى ففي حالة:
1-الإقبال، نكثر من الأعمال الصالحة والنوافل من الطاعات، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة، وأرفعهم قدراً مَنْ لذّتُه في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذته في إقباله عليه، وعكوف همته عليه.
2-الإدبار: نلزمها الفرائض الواجبة من العبادات والواجبات من الحقوق، ونعاملها برفق ولين حتى تستعد للإقبال كرة أخرى، فنندفع بها على وجوه الخير، ونجعلها في لذة الدنيا تتصل بها إلى لذة الآخرة، وكأننا نستعين بها على الفراغ والفتور الذي أصابها.
وفي حكم لقمان: يا بني، إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة.
علاج الفتور:
وهذه بعض الأمور التي يعالج بها الإنسان الفتورَ والكسل، وكأنه يخادع بها نفسَه، إذ لا يحسن به أن يستجيب للكسل، وقد استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، فيكون بتلك الأمور متقرباً إلى الله تعالى منها:
1-قراءة أخبار العلماء الأفذاذ أصحاب التراجم، أو إجراء تجربة عملية أو علمية في بحث علمي.
2-الاطلاع على سيرة الصحب الكرام والسلف الخير الصالح.
3-الخروج قليلاً من المكان المسقوف إلى الفضاء والهواء، أو بالانتقال والتحول من غرفة إلى غرفة أخرى.
4-تناول شراب لطيف، أو طعام خفيف، أو المحادثة مع صديق حاضر أو بالهاتف.
5-قراءة القرآن بصوت جاهر، أو إنشاد شعر مباح.
6-المشي مدة أو الصعود إلى مكان، أو تغيير هيئة السجود.
7-تبديل الكتاب المقروء، أو تحويل الموضوع.
8-عالج الفتور وملل النفس حتى تتغلب عليه، وكل إنسان أعرف بنفسه من غيره، فإن لم يكن يعرفها ويسوسها فليستعن بعالم أو بصديق ناصح، ليتابع في إصلاح النفس ولينقشع الفتور والملل، ويعود النشاط والانبساط، وبذلك يكون قد حافظ على الوقت، واكتسب من الزمن، وما ضاع منه شيء.
وخاتمة القول في الاستفادة من الوقت، والاتصاف بالهمة العالية.
مقالة أحمد أمين عن أوقات الفراغ:
وأنقل هنا كلام أحمد أمين في مقالته «فيض الخاطر» مع التصرف:
في المنازل آلاف الآلاف من طلبة المدارس، يقضون أربعة أشهر أو خمسة أشهر إجازة صيفية، فهل تساءل الآباء: كيف يقضي هذا الوقت الطويل فيما يعود بالنفع على جسمهم وعقولهم، وخلقهم وبلادهم؟ وفي البيوت نصف عدد الأمة من النساء، فكيف يقضين أوقات فراغهن؟
إذا كان الزمن هو المادة (الخامة) لاستغلال المال، وتحصيل العلم، وكسب الصحة، فكم أضعنا من كل ذلك؟ وكم أعمار تضيع في عبث لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة!
ومن نتائج ضياع الزمن ضياعُ كثير من منابع الثروة، كان يمكن أن تُستغلَّ لولا إهمال الزمان، والجهل باستعماله، فكم من الأراضي البور كان يمكن أن تُصلح! ومن الشركات يمكن أن تؤسس، ومن المؤسسات المختلفة يمكن أن تُنشأ وتُدار بجزء من الزمن الفارغ.
وإن من نتيجة ضياع الزمن في عالمنا كسادَ الكتب، وعدم قراءتها، والرضا بالجهل! فليس هناك نفوس تألَّم من الجهل! ولكنْ أجساد تخلد إلى الراحة، والشأن في عالم المال كالشأن في عالم الكتب، فهناك القناعة بالقليل، والرضا بالميسور، والنوم على الوظيفة، والعمل الراتب الذي لا يدعو إلى جُهد، ولا يبعث على تفكير، ثم هناك إفساح الطريق للأجنبي المستغل للعقل والمال.
ولست أريد من المحافظة على الزمن أن يُملأ كله بالعمل، وأن تكون الحياة كلها جدّاً ودَأَباً، لا راحة فيها ولا مرح، وأن تكون عبسةً لا ضَحِك فيها ولا بِشر، وإنما أريد ألا تكون أوقات الفراغ طاغية على أوقات العمل، وألا تكون أوقات الفراغ هي صميم الحياة، وأوقات العمل على حاشيتها وطرفها، بل أريد أكثر من ذلك، أن تكون أوقات الفراغ خاضعة لحكم العقل كأوقات العمل، فإنك في العمل تعمل لغاية، فيجب أن تصرف أوقات الفراغ لغاية كذلك، إما لفائدة صحية كالألعاب الرياضية المشروعة، وإما للذّة نفسية كالمطالعات العلمية، وإما لغذاء روحي كالقيام بقراءة القرآن الكريم والحديث الشريف ونوافل الطاعات والعبادات.
قتل الوقت
أما أن تكون الغاية هي قتل الوقت فليست غاية مشروعة، لأن الوقت هو الحياة، فقتل الوقت قتل الحياة! فالذين يصرفون أوقاتهم الطويلة في نرد (طاولة) أو شطرنج أو لغو أو لهو غير مشروع، لا يعملون لغاية يرتضيها العقل، وكذلك الذين يتسكعون في المقاهي والأندية والطرقات، (وكذلك الذين يمضون الساعات الطوال بملاحقة الفضائيات والبرامج الرخيصة، والمسلسلات التافهة، وصور الدعايات المزرية) لا يطلبون إلا قتل الوقت (ولا يجنون إلا الندامة والخسران، وكأن الوقت عدو من أعدائهم، أو أنه شيء بخس لا يستحق الاهتمام).
ومفتاح العلاج لهذه المشكلة: الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع أن يغير موضوعات حبه وكرهه كما يشاء، ويستطيع أن يغيّر ذوقه كما يشاء.
قراءة القصص الخفيفة
ومن الأسف أن عامة الناس يعتقدون أن قراءة القصص الخفيفة والمجلات الرخيصة كافية لغذاء عقولهم، فهم يلتهمونها التهاماً، ويكتفون بها في لذتهم العقلية، وهي ليست إلا مخدّرا للعقل، أو منبهاً للغرائز الجنسية، وقليل من الصبر وقوة الإرادة يجعل المتعلم صالحاً للدراسة الجدية والقراءة المفيدة، فكل مثقف يستطيع أن يحرك في نفسه هوى لشيء جاد، في نوع من أنواع المعارف، يدرسه ويتوسع فيه ويتعمقه، سواء كان أدباً، أو حيواناً أو أزهاراً أو ميكانيكا (آليا) أو تاريخ عصر من العصور، أو أي ضرب من ضروب المعارف الإنسانية (ناهيك عن العلوم الشرعية ومعرفة الأديان والنحل الأخرى) فإذا هو إنسان آخر، له ناحية من نواحي القوة، وله شخصيته المحترمة، وله نفعه لنفسه ولأبناء دينه، ولبني وطنه وغيرهم. وإذا الأمة غنية بأبنائها في شتى فروع العلم والمعارف والفنون، تعتمد على كلٍّ فيما تخصص فيه من نواحي الحياة.
إذ ذاك يشعر الناس أن عليهم واجباً، أن يغذّوا عقولهم كما يغذون معدتهم، وأن لا حياة لهم دون غذاء، ولا غذاء دون محافظة على الزمن وكسبه والاستفادة المثلى فيه، وعندئذ يرتقي المجتمع وأهله بيئة وفكراً وصناعة وإنتاجاً وعطاء ونفعاً.
خاتمة
لو أن الإنسان أيقن باعتقاد جازم ونية صادقة وهمة جارفة وعزم على الاستفادة من نعم الله عليه بأن لايكون رهنا لحالاته النفسية وموجها من قبل مزاجه المتقلب لاستطاع أن يتطور ويستفيد ويغير لكن شريطة أن لا تحركه الأهواء ولا تتحكم به الأمزجة والحالات كما قال الشاعر:
إذا كان يلهيك حر المصيف
ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهي عيونك حسن الربيع
فأخذك للعلم قل لي متى؟
د\طارق السويدان
نقلاً عن جريدة الوطن