أيها الاخوة ، أيتها لاخوات، اعلموا أن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً، بل خلقهم لغاية ذكرها في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال أيضا:ً الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور.
فالحكمة من خلقه سبحانه وتعالى للخلق عبادته، واختبارهم وابتلاؤهم ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك لم يتركهم هملاً وسدى، بل أرسل إليهم رسله عليهم السلام، فكان من سنة الله تبارك وتعالى إرسال الرسل وتعميم الخلق بهم ليقيم هداه وحجته على عباده، قال الله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . فكانت أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين وواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه وتعاليم دينه، وكان أعظم الأنبياء قدراً وأبلغهم أثراً وأعمهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بهداية الخلق أجمعين، فختم به النبيين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل، فأحيا به ما اندرس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك والكفر وعباد الأوثان، فأقام منار دينه الذي ارتضاه، فكان بحق كما وصفه ربه عز وجل بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فكمل الله به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وألف به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، فأصبح الناس بنعمة الله عز وجل إخوانا وفي دين الله أعوانا، قال الله عزوجل: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال أيضا لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فكان مبعثه النبأ العظيم والحدث الجلل ليرد عليه الصلاة والسلام كل شيء إلى أصله، وكل أمر إلى حقيقته، فملأ القلب إيمانا والعقل حكمة والنفس يقينا والكون عدلا والدنيا رحمة والأيام سلاما والليالي أمنا، فاستحق المقام المحمود، وعلى عباد الله جميع الحقوق التي تضمنتها الشهادة التي تنجي صاحبها من العذاب في ذلك اليوم المشهود: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لذا فقد كان لزاما على كل من ينطق بهذه الشهادة ويدين الله بهذا الدين أن يحيط بتلك الحقوق معرفة، ويلتزم بها اعتقادا وقولا وعملا.
ولكن مما يؤسف له أن كثيرا من المسلمين اليوم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق، فهم بين طرفي نقيض في هذا المقام؛ فإما مقصر لا يقيم لها وزنا ولا يلقي لها بالا، وإما غالٍ حاد عن الصراط، وأخطأ في فهم الصواب، تراه يقوم بأمور ما كان عليها سلفنا الصالح ويظن أنه يحسن صنعا ومؤد لما أوجبه الله من حق نبينا ، وكلا الطرفين صاحب حال مذموم، فكان لزاما علينا أن نبين في هذا المقام حقيقة المحبة للنبي التي أوجبها الله علينا في كتابه حينما قال: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين فكفى بهذه الآية حضا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبة النبي ووجوبها وفرضها وأن تكون مقدمة على كل محبوب سوى الله عز وجل، فمحبته دين يدين به الله كل مسلم، وأن يكون حبه يفوق حب المال والنفس والولد جاء في حديث عمر بن الخطاب أنه قال للنبي : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)) الآن حققت المحبة الحقيقية. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ولكن أين هذه المحبة في قلوب المسلمين؟ شتان بين المحبة الصادقة والمحبة المزيفة المزعومة، فالمحبة الصادقة تقتضي تحقيق المتابعة له وموافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، فمن أحب الرسول محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الرسول ويكره ما يكره، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الرسول أو ترك بعض ما يحبه مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة عليه، فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وبهذا وصف الله المشركين في كتابه فقال عز وجل: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فالمحبة الصادقة للنبي هي التي تجعل العبد يحقق الأولوية في قوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم هذه الأولية التي توجب على المؤمن أن يكون النبي أحب إليه من نفسه وتستلزم منه كمال الانقياد والطاعة والرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه، قال سبحانه وتعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة للنبي أناس بالغوا في محبته بابتداعهم أمور لم يشرعها الله ورسوله ظنا منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة، حتى صرف بعضهم أنواعا من العبادات له كالدعاء والتوسل به والتمسح بالحجرة التي فيها قبره إلى غير ذلك من البدعيات كالاحتفال بمولده والشركيات التي تفعل بدعوة المحبة للرسول وهي أمور يشرعها الله ورسوله ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم، بل وقفوا مع الدليل وساروا على الجادة وأخذوا بالحجة وتعبدوا بالأثر، هجروا التنطّع لأن المعلم بين أظهرهم فيا ترى أي محبة هذه التي يخالف أصحابها شرع بينهم؟ كيف تكون لهؤلاء محبة وهم قد ابتدعوا ما ابتدعوه من أمور لم تشرع في الدين؟ فيجب على هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول وتعظيمه إنما تكون بتصديقه فيما أخبر به عن الله عز وجل وطاعته فيما أمر به ولزوم هديه واقتفاء أثره، إلا الإشراك به والغلو فيه، لذلك ينبغي على كل مسلم أن يعلم أن محبة النبي ليست مجرد دعوى تتحقق بنطق اللسان بها، بل لابد لهذه الدعوى من البرهان الذي يثبت صدقها قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم .