قالو عن حضرموت
اقليم اليمن أو الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية ، الذي اطلق عليه الأوربيون اسم ( بلاد العرب السعيدة ) كان في الأزمنة القديمة متحضراً ومشهورا نتيجة تجارته مع الخارج . ولا يزال هذا البلد يعتبر حتى اليوم أحد الأماكن الغريبة في العالم بالنسبة للعلماء
كارستن نيبور 1774م
--------
على الرغم من الأبحاث الأثرية المنتظمة لحضرموت لا تزال في دورها البدائي ، الا انه يمكن القول اليوم ان هذه المنطقة كانت في الازمنة القديمة مأهولة بالسكان . لقد حددت الإكتشافات للأدوات الحجرية التي قام بها العلماء السوفيت بواسطة وسائل الإشعاع الكربوني معالم الحياة بمليون ونصف مليون من السنين . لقد عاشوا كجماعات بدائية من الصيادين وجامعي الثمار في ظروف مناخية أفضل مما هي عليه الآن . هذا يعني ان امطاراً غزيرة قد هطلت في الماضي مما مكن من وجود عالم حيواني ونباتي أغنى مما هو عليه الحال اليوم . وينطلق الإختصاصيون من ان التغيرات المناخية قد ادت اخيراً الى الجفاف في جنوب شبه الجزيرة العربية في الالف الاول ق . م . وتشبر النقوش المكتوبة بالخط الحميري والخرائب الأترية المكتشفة الى نشوء دول في جنوب شبه الجزيرة العربية لم يفصح عن اصلها بعد . هذه المجموعات المنظمة التي يطلق عليها ( دول المدن ) أو الممالك نشأت في اعقاب بعضها البعض وكانت ذات تأثير متبادل . فقد قامت ممالك معين وسبأ وقتبان و أوسان وحضرموت على اساس نظام الري المكثف على حقول المدرجات في أعالي الجبال وعلى نباتات الواحات التي تروى بواسطة المياه الجارية في الوديان . وقد تم تجميع مياه امطار الرياح الموسمية في خزانات وصهاريج كبيرة مكنت من ري مساحات زراعية واسعة ( زراعة الحبوب وأشجار النخيل والخضروات والكروم ... الخ ) واعتبر سد مأرب في عاصمة مملكة سبأ من عجائب العالم القديم
وفي نفس الوقت دجن الجمل ذو السنام الواحد في المناطق الداخلية لشبه الجزيرة العربية فتطورت على أساسه البداوة أي حضارة العرب الرحل مربي المواشي ، وبواسطة هذا الحيوان الداجن القنوع الصبور أي الجمل ، نشأ لأول مرة الشرط المناسب لأختراق المناطق الصعبة الاجتياز والمحرومة من المياه ، كما نال التبادل السلعي في شكل تجارة القوافل حافزاً جديداً من خلال ربط امكانية تربية الجمال من جهة وعدد من سلع الحضارة الراقية للجنوب العربي من جهة اخرى . فعلى هذا الاساس نشأ ( طريق البخور ) الذي عرف في التاريخ بأنه احد اشهر طرق التجارة واقدمها . وقد تحدث الجغرافيون والمؤرخون اليونان والرومان باسهاب عن هذا الطريق التجاري
لقد ربط طريق البخور ساحل المحيط الهندي بالبحر الابيض المتوسط بواسطة البر . فهذه المسافة تزيد عن 3500 كيلو متر قطعتها القوافل عادة خلال فترة تتراوح بين سبعين الى تسعين يوماً وغالباً ما الفت الجمال بحمولتها قوافل امتد طولها كيلومترين وقطعت يومياً مسافة تتراوح بين ثلاثين الى اربعين كيلومترا من هذا الطريق الذي بدأ من ظفار مركز كسب البخور ماراً بوادي حضرموت الى شبوه العاصمة القديمة لهذه المملكة وفي نفس الوقت كانت شبوه تربط ميناء قنا المذكور في التوراه ( كنعا ) والواقع اليوم غرب مدينة المكلا بطريق تجاري يمر خلاله البخور الى الشمال بعد نقله من ظفار بواسطة القوارب التي أبحرت بمحاذاة الساحل
ومن شبوه اتجه طريق البخور غرباً الى تمنع عاصمة مملكة قتبان ثم الى الشمال حتى مأرب عاصمة مملكة سبأ ومن هناك عند الحد الشرقي للجبال اتجه نحو قرناو ثم الى واحة نجران الغنية بالنخيل . وسار الطريق الى الشمال عبر تبالا و يثرب ( عرفت فيما بعد باسم المدينة المنورة ) وريدان ، حيث اسس العرب الجنوبيون مجموعاتهم السكنية الشمالية هناك ، ثم الى بتراء مركز الانباط ومنها الى غزه على ساحل البحر الابيض المتوسط . وقد قادت الفروع من بتراء في اتجاه الاردن الى دمشق وفي الاتجاه الشرقي الى بلاد مابين النهرين . هذه هي اهم طرق التجارة في العالم القديم ونعود الآن الى ذلك المنتوج ( البخور ) الذي حمل هذا الطريق اسمه
المنتوج هو صمغ ذو رائحة طيبة يستخلص من أشجار برية ويعطي لدى احتراقه رائحة زكية . اعتبر هذا الاريج من مميزات الحياة الالهية حيث لعب دورا هاماً في طقوس وشعائر الحضارات القديمة . فقد تم تقديم البخور للقرابين في معابد بابل ونينوى كما هو الحال لدى قدماء المصريين بوادي النيل ، حيث لعب دوراً هاماً خاصة في شعائر الموتى . وفي حوالي القرن الثالث ق . م . استخدم اليونان البخور في شعائرهم ثم تلاهم الرومان فيما بعد . وقد افادنا المؤرخ الروماني بلينيوس الاب ( 23 - 79م ) ان القيصر نيرون امر باحراق المحصول السنوي من بخور الجزيرة العربية اثناء مراسيم تشييع جنازة زوجته بوباء
وفيما يتعلق بتجارة البخور يمكننا ان نقرأ لدى بلينيوس ما يلي : ( بعد جمع البخور من قبل الكهنة ينقل على الجمال الى سبوتا ( شبوه ) حيث يفتح احد ابواب المدينة ليتم دخول القافلة . فالملوك كانوا يرون في انحراف الجمال المحملة عن الطريق الرئيسي جريمة عظمى . وفي سبوتا يأخذ الكهنة حسب الحجم لا الوزن عشر البضاعة كضريبة للرب اطلقوا عليها اسم سايس
لم تنقل عن طريق البخور المواد ذات الرائحة الزكية فحسب بل ايضا سلع تجارية متنوعة كالقمح والارز وزيت السمسم والتوابل والاقمشة الحريرية والذهب والنحاس وظهور السلحفاة والجواري . وجاءت بعض هذه السلع من الهند وشرق افريقيا الى جنوب شبه الجزيرة العربية عن طريق البحر ثم نقلت فيما بعد بواسطة الجمال الى الشمال وفي نفس الوقت ادت الوساطة التجارية الى تبادل الافكار والتأثيرات الفنية بين منطقة البحر الابيض المتوسط وجنوب شبه الجزيرة العربية حيث يمكن البرهنة عليها حتى اليوم
كان جنوب شبه الجزيرة العربية بما فيها حضرموت خاضعاً للحكم الفارسي قبل ظهور الأسلام وبتأثير الانتشار الناجح للاسلام عن طريق الفاتحين اعتنق الحاكم الفارسي في اليمن العقيدة الجديدة عام 628م اما الى أي حد اكتسب الاسلام قاعدة جماهيرية في حضرموت في تلك الفترات المبكرة ، فان المعارف الحالية لم تذكر ذلك بالدقة الا ان اليمنيين انضموا مباشرة وبأعداد كبيرة الى القوات الاسلامية كمكافحين في سبيل عقيدتهم ومن بين هؤلاء كان طارق بن زياد الذي قاد حملة لفتح اسبانيا انطلاقاً من شمال افريقيا ، لهذا سمي جبل طارق الذي يشكل شبه جزيرة في الطرف الجنوبي من اسبانيا بإسمه . كما ان الشاعرين المشهورين امرؤ القيس والمتنبي وكذا المؤرخ ابن خلدون ينحدرون من اصول يمنية
وفي حوالي القرن الثامن الميلادي حدث هجرة السيد احمد بن عيسى بن محمد الملقب باعلوي الذي جاء من البصرة الى حضرموت . ومن خلال فصاحته وحسن بيانه ومهارته في التفاوض ساهم في نشر الاسلام في حضرموت . ويقع قبره ذو القبة على منحدر جبلي بين سيئون وتريم . وبقدوم باعلوي الى حضرموت ازداد نفوذ السادة المنحدرين من سلالة النبي والذين شكلوا الارستقراطية الدينية في مدن وادي حضرموت حتى قيام الثورة . وبعد ان تمكن السادة من اثبات وجودهم امام شيوخ القبائل المحليين نالوا ايضا نفوذاً كبيراً في التجارة وكمثال على القوة والعزة الاقتصادية والسياسية الكبيرة يمكن الاشارة الى اسرة السيد الكاف ، التي تمكنت عن طريق التجارة في جنوب شرق آسيا من الحصول على ثروة طائلة ساعدتها على ان تكون ذات صوت مسموع مثل كبار الملا ك والتجار في تريم وسيئون
وفي يناير 1839 م غزت بريطانيا العظمى مدينة عدن عسكريا نظراً لامتلاك هذه المنطقة ميناء طبيعي ممتاز يؤمن الطريق لبحري الاستراتيجي الهام الى الهند ، درة التاج البريطاني . بذلك بدأت فترة استعمار دامت حوالي 129 عاما زادت من ثروة وسلطة بريطانيا العظمى في حين لم تجلب لشعب جنوب اليمن المتواضع سوى الآلام والعوز اما المناطق الخلفية لعدن فقد غرقت في الجهل والفاقة وبقيت حتى نهاية الحكم الاستعماري منطقة من اكثر مناطق العالم تخلفا وفقرا
لقد خدمت هذه السياسة مصالح الحكومة البريطانية الهادفة الى خلق منطقة عازلة تؤمن ميناء عدن فالصراعات القبلية والتنافسات التي قامت بين الاربعة والعشرين سلطنة وامارة ومشيخة في المناطق الخلفية لعدن ، خلقت موجة من العداء للمحتلين الاجانب في هذه المنطقة
سعى وكلاء الادارة الاستعمارية البريطانية عبر رشوة حكام الدويلات وكذلك عن طريق توريد الاسلحة الى وضع هؤلاء الحكام تحت نفوذهم ، فمارسوا بذلك النظام المجرب والموثوق به وهو الحكم غير المباشر
ففي عام 1888م ابرم البريطانيون معاهدة الحماية مع سلطان المكلا القعيطي ، وبعد ثلاثين عاماً عقدوا نفس الاتفاقية مع السلطان الكثيري في سيئون فأمنوا بهذا الاسلوب نفوذهم وتأثيرهم على التطور السياسي في المناطق الداخلية
وفي عام 1939م أنشئ الجيش البدوي الحضرمي الذي هو عبارة عن فرقة سريعة الحركة من المحاربين البدو دربها الضباط البريطانيون لتكون اداة فعالة في مكافحة الانتفاضات المعادية لهم وقد تم تدريب الجنود البدو على التكتيك العسكري الحديث كما ارهب السكان عن طريق استخدام العربات المسلحة والطائرات التي لم تكن معرفة في المنطقة حتى ذلك الحين . وقد اخبرني شهود عيان ان الذعر قد استولى عليهم عندما شاهدوا آثار العربات في الرمال حيث اعتقدوا انها آثار ثعبان هائل
لوتار شتاين / كارل هاينس بوخو
مطلع الثمانينات من القرن العشرين